الاضطرابات الشخصية
Jan 2 2024
لا يُمكن الحديث عن التجارب بمعزلٍ عن الدروس المستفادة منها، وحتى عن طبيعة الأثر الذي تتركه عند الآخرين؛ وعليه كيف هو الأمر مع "ألم تجربة العلاقات مع المصابين باضطرابات الشخصية النرجسية "؟ ولنُجيب على ذلك يتعين علينا أن نستذكر مقولة أمين معلوف في رواية الهويات القاتلة: "في كلّ خُطوة في الحياة، نُصادفُ إحباطا وخيبة وإهانة. فكيفَ لا تُصبح شخصيتُنا مُمزّقة؟"
إن المصاب باضطراب الشخصية النرجسية يتسم بعدم القدرة على إقامة عُلاقات سوية مع الآخرين، والآخرين يعانون من صعوبات في إقامة علاقة معه، غير أن الفارق بأن المضطرب بالشخصية النرجسية، لا مشكلة لديه في ذلك، بينما بالنسبة للمحيطين به فهو العكس، وأحياناً يدفعون الثمن غالياً.
هناك اعتقاد بأن الشخصية النرجسية تستمتع باللعب على مشاعر الآخرين، ولكن في حقيقة الأمر أن الشخص النرجسي لا يتلذذ باللعب في مشاعر الآخرين كما يُقال؛ الشخص النرجسي بالمعنى الحقيقي، هو شخص برّاق المظهر، معطوب الداخل؛ هو فعلياً يحاول إخفاء العطب الداخلي لديه بالحفاظ قدر المستطاع على بريقه الخارجي وصورته أمام الآخرين، وأحياناً بالمحاولة بإيذائهم أو التقليل منهم.
صاحب الشخصية النرجسية يبدو من الخارج بالنسبة لنا:
لكن إذا لم يتحقق ذلك، ولم يأخذ الانطباع الذي يحلم به من الآخرين، أو تم نقده بصورة سلبية، فهو يتعب، يتألم، ويشعر بالضيق ويفهم أن هؤلاء الأشخاص قد أساؤوا له فعلاً، وأحياناً يسعى إلى الانتقام منهم ويكون شديد العداء لهم، وقد يؤذيهم أيضاً.
وهذا ما يُسمى بالجرح النرجسي، فهو فعلياً لا يشعر باللذة بذلك، إنما هي ردة فعل طبيعية لديه في محاولة اخفاء أو إصلاح عطبه وضعفه الداخلي، وليس رد متزن وموضوعي اتجاه الانتقاد أو الإساءة المفترضة الموجهة نحوه.
يطلق على الاشخاص الذين يتعاملون مع الشخصية النرجسية بضحايا العلاقات السامة، إذ من يرتبط بشخص لديه واحد من الاضطرابات التالية:
فهذه تجعل من علاقاتهم مع الآخرين مصنفة على أنها تمتص الآخر، وتمزق حقوقه، وعليه، يجب ألا يتوقف دور الطبيب أو المعالج النفسي على صاحب هذا الاضطراب وإنما تمتد لتشمل كافة المحيطين به. لذلك من يلجأ إلى العيادة هو المشتكي والمتضرر، وليس بالضرورة الشخص المصاب، وهذا المشتكي هو الأقرب بأن يصاب بالجنون بسبب هذا الشخص.
قد تأتي إلى العيادة سيدات مضطهدات من قبل أزواجهن النرجسيين، أو يأتي أبناء يشعرون بالاكتئاب من شخصية آبائهم النرجسية، وبالرغم من أن المريض أو المراجع يصف أحداث أو مواقف تصف شخصيةً نرجسية، إلا أنه ليس من دور الطبيب النفسي أن ينطق بكلمة 'النرجسية' وأن يجزم بها دون أن يتم تشخيص وفحص هذه الشخصية طبياً، كما أنه ليس من دور الطبيب النفسي أن يبدي رأيه الشخصي في الخيارات الاجتماعية الخاصة للمراجع، كخيار الاستمرار في العلاقة أو انهائها مثلاً. فالطبيب النفسي فقط يسعى إلى تقوية الضحية، ويساعدها على إدراك المواقف غير الصحية التي قد يقع بها في هذه العلاقة، وإعلامها أن هذه المواقف قد تساهم في تآكل صحتها النفسية شيئاً فشيئاً، وبعدها يستطيع الشخص أن يقرر مجرى علاقته بنفسه.
لذلك وجب التنويه ألا نطلق على شخص أنه نرجسي بشكل عشوائي، ونعتمد هذا المصطلح دون الفحص والتدقيق أو التشخيص من طبيب نفسي، فلا يكفي الاستماع إلى حلقات على موقع يوتيوب أو إلى حلقة إذاعية للجزم أن الشخصية التي نتعامل معها نرجسية. أما الطفل القاصر إذا لاحظ الطبيب النفسي أنه في علاقة مسيئة من أمه أو أبيه، فهنا دور الطبيب النفسي يكمن أيضاً في إبلاغ مؤسسة حماية الأسرة لأن الطفل لا يستطيع هنا الدفاع عنه نفسه وحمايتها.
حتى نتمكن من تحديد شريحة ضحايا الشخصية النرجسية لابد من الإشارة إلى أن الشخصية النرجسية لا تقتصر على العلاقات العاطفية فقط، إنما في حقيقةً الأمر هي أوسع من ذلك: فيوجد أب نرجسي، ابن نرجسي، أو مدير نرجسي، التثقيف العام السطحي بموضوع الشخصية النرجسية يقتصر فقط على الشريك النرجسي، وعلى تشجيع الطرف الآخر على الفرار من هذه العلاقة سريعاً. ولكن في كثير من الأحيان يكون لدى الشخص سمات أو خصال نرجسية، ولا يُشخص 'باضطراب الشخصية النرجسية' وهنا يستطيع الطرفين المحافظة على سير العلاقة برسم الحدود بينهم واحترامها.
أما إذا كان الأب أو الأم ذوي شخصية نرجسية في العائلة، فهذا يرُجح تربية الشخصية النرجسية لدى الأبناء، فيتربى الطفل على تلبية جميع طلباته وعلى عدم التعاطف مع غيره، وقد يفقد التعاطف يوماً اتجاه والديه أيضاً. وقد تتعقد الأمور أكثر وأكثر؛ فيكون الابن امتداداً للشخصية النرجسية ولكن بنفس الوقت ضحية لشخصية أحد والديه النرجسية.
وحتى في ظروف العمل قد تظهر الشخصية النرجسية، فيكون الشخص معطوب ومقهور، ويحاول تصحيح صورة ذاته بالتعدي على ناس أضعف منه في ظروف العمل، فنراها مثلاً في مدير لم يستطع تحقيق ذاته في العمل، فيذهب للتقليل من شأن موظف آخر، خاصةً إذا كان ضعيف الشخصية ليرفع من ذاته، ويرى نفسه بصورة أفضل. في نطاق العمل كذلك، يوجد ما يُسمى بمتلازمة الغطرسة (Hubris Syndrome) بحيث يكون الشخص قد وصل إلى منصب مهم وجديد، ويحب أن يُسمى باللقب الجديد وأن يُمدح من غيره، وهو لا يستقبل تغذية راجعة سلبية اتجاهه، وعادة تظهر عند رؤساء الدول والمؤسسات والمشاهير.
هناك نطاق واسع من المعاناة النفسية التي قد تلحق بضحية الشخصية النرجسية، اي الشخص الذي يتعامل مع الشخصية النرجسية.
ومن الجدير بالذكر أن الشخصية النرجسية تحاول فصل الشريك عن الآخرين، كالأقارب، الأهل والأصدقاء، لعزل الدعم النفسي الذي قد يحصل عليه الشريك من الحلقة حوله.
لحماية أنفسنا يُنصح دائماً عندما يشعر الشخص أنه في علاقة غير سوية، أن يقوم بالإخبار عن العلاقة التي يعيش بها لأصدقائه وأهله، ومشاركتهم ومشاورتهم لجمع الآراء التي قد تؤدي إحداها إلى السعي إلى المساعدة، وايجاد الحلول الاجتماعية التي لا يستطيع الطبيب النفسي إبداء رأيه فيها، فلا نسمح للألم الصامت المنعزل عن الآخرين، بل نشارك شبكة الدعم الخاصة بنا لمساعدتنا في هذا الموضوع، ورؤية الأمور بوضوح.
بعد سرد كل ما يعانيه ضحايا المتعاملين مع الشخصية النرجسية، من المهم أن نظهر بأن هنالك شخصيات جاذبة للشخصية النرجسية، فالشخصية الاعتمادية بشكل عام هي أكثر شخصية جاذبة للشخصية النرجسية، ففي البداية تنبهر بالشخصية النرجسية، وتُعجب بها، ثم تصب العاطفة والآمال عليها وتبني الحماية والثقة من خلال علاقتها مع الشخصية النرجسية.
فالشخصية الاعتمادية لا تشعر بالكفاءة الذاتية والثقة بالنفس الكافية للتخلي عن الشخصية النرجسية، حتى لو تعرضت للإساءة والإهانة منها، وهي تحاول قدر الامكان إبعاد ورفض أي شخص يحاول المساعدة، وإنهاء علاقتها مع الشخصية النرجسية سواء من الأسرة أو الأطباء النفسيين أو مؤسسات مختصة، بل هي تمدح بالشخصية النرجسية وترفع من صورتها أمام الآخرين وتدافع عنها.
فيوجد حتماً معاناة في هذه العلاقة، إذ تقوم الشخصية الاعتمادية بإعطاء المديح والإعجاب، وتلبية الاحتياجات النرجسية للطرف الآخر وهي تشعر بالاحتماء بهذه العلاقة، وبالمقابل تشعر الشخصية النرجسية بالاكتفاء والرضى بمجرد العلم أن هذه الشخصية الاعتمادية لا تستطيع التخلي عنه.
مضطّرب الشخصية بالنسبة لعلم النفس هو مريض ولكن بالنسبة للمجتمع والقانون هو شخص لا تسقط عنه الأهلية. هو اضطراب يمتد من جذور نشأة هذا الإنسان، ونحن نتعاطف معه إلى حدٍ ما ونحاول كافة جهودنا أن نعاونه، مع العلم أننا أيضاً قد نتأثر منه، ومن يعانون من هذه الاضطرابات هم ليسوا فاقدين للأهلية، ومسؤولين عن أفعالهم، ويتعين عليهم تحمل تبعاتها، وفي بعض الأحيان عند الوقوف على القانون وردود أفعال الناس هي السبب الأخير الذي يأتي بهذا الإنسان للعلاج؛ لأن هؤلاء الأشخاص، وتحديداً من يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية أو الشخصية السيكوباتية لا يعانون بالضرورة ولكنهم يصطدمون بالمؤسسات، القانون، وعلاقاتهم مع الزملاء في العمل، وهذا ما يجعلهُ أساساً يلبي دعوة العلاج؛ ببساطة لأنه يعتقد بأنه أفضل من الناس.
إذا ما أردنا الحديث بدقة أكثر، وخاصة عند التحدث عن الاضطرابات النفسية لدينا ما يقارب ال 300 نوع من هذه الاضطرابات و10 منها تسمى باضطرابات الشخصية وهي جزء لا يتجزأ من العائلة الأكبر، ولكن في الغالب هنالك فرق بين من لديهم اضطرابات شخصية وبين أي اضطراب نفسي عابر، حيث أن الاضطراب المتعلق بالشخصية يقف عند السمات والخصال التي أخذت مساراً ونسقاً مختلفاً عما هو مقبول مجتمعياً؛ بمعنى القلق والاكتئاب عابران، بينما اضطرابات الشخصية تمتد إلى جذور صفات معينة وهذه لا تتغير كثيراً أو حتى لا تتغير بنسب هائلة، وهي لا تتعدى ال 20% أو ال 30%، ونحن نتحدث عن أناس لديهم أنماط معينة مغايرة لتوقعات المجتمع؛ وهذه ليست حاله مؤقتة كما جنون العظمة. وهذه الاضطرابات العشرة ليست بمجلها ثقل على محيط من يعاني منها وإنما أربعة منها كفيلة بأن تخلق عقبات ومشاكل مع الآخرين.
0